أصبح الاتهام الموجه ضد روسيا بالتدخل في الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة من أهم العوامل التي تمنع تحسين علاقاتها مع الولايات المتحدة، رغم محاولات الرئيس دونالد ترامب مد جسور مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين. ويتجاوز أثر هذا الاتهام مسألة الانتخابات، لأنه يدعم اتجاهاً معتبراً داخل المؤسسات السياسية الأميركية يرى أن روسيا هي مصدر التهديد الأول للولايات المتحدة.
غير أن اتجاهاً آخر في هذه المؤسسات يعتقد أن الصين هي المصدر الأول للتهديد في الوقت الراهن، لأنها تهدد الاقتصاد الأميركي في عصر صارت القدرات الاقتصادية أهم عناصر القوة الشاملة للدولة.
ويثير هذا الخلاف على مصدر التهديد الأول سؤالاً مهماً عن مغزى العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة على كل من روسيا والصين، ودلالتها بالنسبة لترتيب الأولويات فيما يتعلق بمصادر التهديد. وربما يقود تأمل طابع هذه العقوبات إلى استنتاج بأن من يرون في روسيا مصدراً أول للتهديد لا يختلفون على أن الصين تُمثل تهديداً بدورها، والعكس.
ورغم أن العقوبات اقتصادية في الحالتين، فإن الهدف يختلف في كل منهما. العقوبات الاقتصادية على روسيا هدفها سياسي في المقام الأول، وهو محاولة إرغام موسكو على تغيير بعض سياساتها في قضايا موضع نزاع بين الدولتين. أما العقوبات ضد الصين فهي اقتصادية في طابعها، كما في هدفها الأساسي. لذلك يُطلق عليها عقوبات تجاوزاً، لأنها في الأصل إجراءات مترتبة على سياسة حمائية تهدف إلى الحد من الخلل في الميزان التجاري مع الصين، وتحقيق شيء من التوازن فيه، سعياً إلى تقليل الخسائر التي يتكبدها الاقتصاد الأميركي بسببه.
وهذه المرة الأولى التي يحدث فيها خلاف كبير داخل المؤسسات التي تصنع السياسة الخارجية الأميركية، وتؤثر فيها، بشأن مصدر التهديد الأول، منذ أن صارت الولايات المتحدة قوة عظمى منخرطة في النظام العالمي.
فقد ظل مصدر هذا التهديد محصوراً في الاتحاد السوفييتي السابق على مدى أكثر من أربعة عقود، ثم انحسر عقب تفككه. غير أن التقدم الذي أحرزه بوتين في سعيه لأن تستعيد روسيا مكانة الاتحاد السوفييتي، أو ما يُستطاع منها، حولها تدريجياً إلى مصدر خطر لدى قطاع مهم من صانعي السياسة الخارجية الأميركية.
والملاحظ أن الشعور بتهديد روسي ازداد في العامين الأخيرين بالتزامن مع تنامي إدراك أن الصين باتت تُمثَّل مصدراً آخر للتهديد في شمال شرق آسيا بصفة خاصة. وربما تفيد ملاحظة هذا التزامن في تفسير الخلاف الظاهر اليوم في الولايات المتحدة بشأن مصدر التهديد الأول، بعد أن أخذ هذا التهديد في كل من الحالتين يتبلور في صورة أكثر تحديداً مما كان عليه عندما تصاعد الصراع الأميركي الروسي على أوكرانيا، وحين ازداد الخلل في الميزان التجاري مع الصين.
ورغم عدم وجود انقسام ظاهر في مؤسسات السياسة الخارجية الأميركية، وحرص كل من الاتجاهين على التعايش، فليس مستبعداً أن يصل الخلاف بينهما إلى مستوى أعلى في فترة قادمة. فقد بدأ بعض من يرون أن الصين هي مصدر التهديد الأول في الدعوة إلى دعم اتجاه ترامب للتقارب مع روسيا من أجل مواجهة هذا التهديد. ويعتقد هؤلاء أن تهديد الصين للمصالح الأميركية ليس تجارياً فقط، بل استراتيجياً أيضاً، بعد أن تمكنت من تحقيق ما يعتبرونه هيمنة فعلية كاملة على محيطها، وحققت خطوات مهمة في مشروعها الأكبر (الحزام والطريق) الذي سيدعم نفوذها في كثير من أنحاء العالم.
أما من يرون أن روسيا هي مصدر التهديد الأول فيُسهبون في التنبيه إلى أخطار استمرارها في التدخل في أوكرانيا بعد أن ضمت شبه جزيرة القرم، ودعمها لإيران التي يزداد الاقتناع في واشنطن بأنها تُزعزع منطقة الشرق الأوسط، ومواصلتها الهجمات السيبرانية ضد أهداف أميركية وأوروبية، ومحاولاتها تقويض الديمقراطية في الولايات المتحدة عن طريق السعي للتأثير في انتخاباتها.
هناك إذن حالة غير مسبوقة تمر بها السياسة الخارجية الأميركية التي يتعذر إخفاء حيرة المسؤولين عنها بشأن تحديد مصدر التهديد الأول والأكثر خطراً. غير أن هذه الحالة قد لا تضعهم في موقف صعب إلا إذا صاروا في حاجة إلى تركيز قدرات بلادهم وإمكاناتها لمواجهة أحد مصدري التهديد، أو التعاون مع هذا أو ذاك منهما ضد الآخر، أو لتدعيم موقع الولايات المتحدة في النظام العالمي بوجه عام.

*مدير مركز الأهرام للدراسات والبحوث الاستراتيجية